Saba Almubaslat
الحائط السَّند
بعض المعارك خسارتها انتصار! نَظَرْتُ إليها وقد جَلَسَتْ أرضاً، تتَّكِئ بظهرها على حائطٍ آيل للسقوط... وبالرغم من وهنه هذا الحائط، كانت تبدو كَمَنْ وجد ما يسنده بعد طول عَرَاء! كانت تتَّكِئ ورأسها مُلْقاً للخلف، رقبَتُها ممتدَّةٌ كما غريقٍ أدْركَ روعة الوُلوجِ من العُمْق والتَّنفُّس بعد طول اختناق. كان تاج رأسها يُلامس الحائطَ وكأنَّما ليطمئنَّ أنَّه وعلى الرُّغم من تعب الجسد، سيُبْقِيه هذا التَّلامس الوثيق الحميم مكانه... لن يسقط من بين الكتفين... كتفاها كانا قد اسْتَدَلَا، وكأنَّهما بذلك يُريدان أَنْ يُخَفِّفَا الحِمْل عنهما لِيَتَخَفَّفَا... كانا مُنْحنِييْن، ولكن دونما انكسار... هو فقط اسْتسلام مَنْ أَيْقَن أنَّ في استمرار القتال نهاية الاستمرار... مَدَّتْ ما طال من سَاعِديها إلى جانبيها... ارتَفَعتْ كفَّيْها في نهاية السَّاعِديْن المُنْهكَتَين في حالةٍ يُمكن أن تُشَبِّهها بدعاءِ مُؤمنٍ يَطلبُ الرَّحمة، أو استرخاء ميِّتٍ وصَلَ بعد أن طال به التَّرحال... خصرها كان قد ترك فراغاً بينه وبين الحائط... إنَّه الفراغ الذي يُولدُ عندما تتوقَّف عن التظاهر بالقوَّة... إنَّه الفراغ الذي لا يحاول أنْ يَمْلَأَ ذاته... هو فراغ مَنْ لا يُبالي... ساقاها كانتا قد امتدَّتا أيضا أمامها ليُلامِسا الأرض حيثما اتَّفق!! لا محاولة جادَّة للظُّهور بأيِّ مظهر... هو الاستسلام الكامل والبقاء على هيئة الأحياء الجالسين بدعمٍ من حائط متهالك!
لم أعرف لِمَ شدَّني مَظْهرها هذا! لم تَكنْ تحاولُ أن تُقنعَ نَفسهَا أو المَارَّة بأيِّ شيء... هي فقط مستسلمةٌ تماماً في وجههم جميعاً، وكأنَّما في استسلامها فعل مقاومة على صمته صارخ! هي حطَّت الرِّحال وسكَنَتْ لهذا الحائط المُتهالك... كأنَّه السَّنَد الوثيق الوحيد الذي وَجَدَت! كانت أنفاسها تهدأ مع مرور الزَّمن... تهدأ لدرجةٍ ما عُدْتُ أستطيع أن أميِّز ما إذا كانت لا زالت تتنفَّس... جسدها يفعل ما يفعل بشكل لا إرادي... هي لا تفعل أيُّ شيء!
هَالَنِي المنظر... استفزَّني هذا الاستسلام المقيت... أصابني بالذعر مجرَّد التَّفكير أنَّه من الممكن للهزيمة أن تُشَكِّل ملامح هذه المرأة... كَرِهْتها، لأنِّي رَأيْتُ فيها كلّ المهزومات قهراً... وأشفقتُ عليها لأنِّي رأَيْتُ فيها كلّ المهزومات قهراً... وبَكَيْتُها وهَزِئْتُ منها... حضنتها وهجرت مكانها، لأنِّي رأيتُ فيها كلّ المهزومات قهراً!
اقتربْتُ ينتابني من الشُّعور كلُّ شيءٍ وعكسه... ماذا تُراني فاعلة؟ كيف لي أن أَقبَلَ بهزيمتها، ومعاركها تُشبِه كلّ مَعَارِكي؟ أَأَتْركها تَرمي السِّلاح جانِباً؟ أَأَكِلهَا لِسقوطِها؟ أأقبلُ بانكسارها؟ وَقَفْتُ أمامها غاضبةً مشدُودةً من الرَّأس حتَّ أخمَصَ القدميْن...أُحاول أَنْ أضبِطَ غضبي حتَّى لا تخرج كلماتي محمَّلَة بحَنَق السِّنين. حاولتُ أنْ أقول شيئاً ما... أيُّ شيء... لم أسْتَطِع... أحْسَسْتُ وكأنَّما أُعاني مِن خَدَرٍ يجتاح صوتي وكلماتي وظلِّي وذكرياتي والقادم من معاركي... حَجَب الظِّل الساقط منِّي رؤيتها... رَفَعَتْ عينيها في مَحْجَرهِما ناظرةً إليَّ بتكاسلٍ فطريٍّ، دون أن تُحرِّك أيّ من ملامحها... ابتسامةٌ هزيلةٌ ارْتَسَمَتْ على الجانب الأيمن من فمها... ارتفع مع هذه الابتسامة صدرها مرَّتين، وكأنَّ للابتسامة صدى يتردَّد داخلها... لم أدرِ إن كانت تبتسم شفقة عليَّ وغضبي، أم إن كانت تهزأ منِّي... أطالت النَّظر... أشعر وعلى الرُّغم من وَهَنِها وكأنَّما نظراتها تَعْبرني... هي تُدرك غضبي... تُدرِك خَدَري... لم تقُل شيئاً... لم ترمِش لِأطول مما هو مقبولٌ بشرياًّ، وأنا كذلك! هذا النَّفق الواصل بين عينيها وداخلي، هدَّأ من غضبي... بات نَفَسي يهدأ لِيَعزِفَ نفْس لحنها... أطَلْنا النَّظر بعضنا لبعض... هدَأْتُ أكثر... هدَأْتُ أكثر... ثمَّ سقطْتُ طوْعاً إلى جانبها... تركْتُ لجسدي المرهق الخَيَار، فاسْتَسْلَم بِحُب... سقطْتُ أتَّكِئ على ذات الحائط المتهالك... أرسمُ فراغاً غير مبالٍ بين الخصر والتقاء الحائط بالأرض...
وأنا هناك إلى جانبها، نظَرْتُ إلى حيث كانت هي تنظر... رأيتُ ما ترى... أعدادٌ لا متناهيةٍ من مارَّةٍ على وجه الأيَّام بلا ملامح... يَحْكُمهم عُرْفهُم، وما ورثُوه من ضمير ناقص، وما اجتثُّوه من تاء التأنيث، ليصوغوا الظُّلم قانوناً ، ويُنَصِّبوا المجرم قاضياً باسم ما يجب أن يكون! عرِفْتُ حينها لما توقَّفَتْ عن القتال... هي بين جموعٍ من المهزومين... ليس في هزيمة المهزوم شرف... ليس في الانتصار على المكسورين انتصار... بعض المعارك خسارتها انتصار!
