Saba Almubaslat
بَقَايَا قَلَم رَصَاص
استَمَعْتُ لِأحدهم يوماً وهو يُقَاِرب بين تجربة الإنسان عبر مروره في الحياة وقلم الرصاص... كنت في السابعة عشر آنذاك... عدتُ إلى المنزل مسرعة وكتبت التشبيه في دفتر صغير كنت أحتفظ به كمخبأ سرّي لجميل ما ألتقط من كلمات الآخرين... أذكر جيّدا كيف أنّي كنت من النزاهة حينها أن أُبْلغ من يقول جميلاً يستوقفني، أنّي سأكتب ما قال، وقد أقرأه ذات مرّة أو أقرأه كثيراً... وأنّي قد أُضيف عليه حتى يُمسي مع الوقت أكثرُ شَبَهاً بي، فأَنْسِبُ شيئاً مِنه لي، أو أَقْتَبِسْهُ بحَرْفِيّتِه ذاكرةً أنها كلماتُ أحدهم.
حينها، كان ذاك الرجل الكهْل -على الأقل من وجهة نظر من كانوا حينها يافعين- القادم من وراء البحار المليء بالحكمة وشيب الزمن الذي مرّ عليه وحكايات لملمها من ترحاله الدائم، يحاول ببسيط الكلام أن يُحضّر حفنة ممن كانوا لازالوا في بداية الطريق لفهم ما ينتظرهم إن امتد الدرب بهم للقادم من الوجود... كنتُ ومَن معي نعتقد جازمين أنّا نستطيع... أنّا نحن من يصنع الحياة... لا بل أنّا نحنُ هي الحياة بعينها... وأنا نشقّ درب الوجود كما رسمناه في الحلم... من يستطيع أن يُوقِفَ عزمنا... كُنّا متأهّبين لنملأ الدنيا أملاً ونزيّن شُرُفات القادم من الأيام بكثير من الفرح ونُعلّم الطير كيف يضحك فيطير وينثر الضحكات فوق كل أرض مكلومة... كم كُنّا صغاراً... كم كُنّا لا نعلم!
عندما وقف بنا، كان المكان يضجّ بأصوات من لا تجربة لهم لكن تملأهم ثقة زائفة بأنهم قادرون!! لم يطلب منّا السكوت ليبدأ بمحاضرته... وقف هناك بصمت وعلى وجهه ابتسامة... كنت أجلس في الصفّ الأول... لم يكن يعنيني كثرة الحديث... كان يضايقني تكلم الكثيرين في ذات الوقت... يجعلني في كلّ مرّة أتساءل إن كان الجميع يتحدثون، من ذا الذي يستمع؟ أم ترى كل واحد منهم بحاجة لسماع صوته مؤمناً أنّه إن سمعه، فلا بد أنه مسموع؟؟؟ طال وقوفه بنا... لم يَنْبِس بِبِنْتِ شَفَة، وحالُ وجهه يقول تملكون تَرَف إضاعة الوقت... لازلتم في بدايته... أما أنا فخريفي بات على الأفول... أدار ظهره... بحث في حقيبته الجلدية لدقيقة وبضع ثوانٍ... تناول منها قلم رصاص... واستدار ليواجهنا مجدداً... حمل قلم الرصاص بأطراف أصابع يديه من كلا الطرفين... مدّ ذراعيه على استقامتهما ورفعهما لتقفا عند مستوى نظره... قرّب القلم إليه وهم يتفحّصه كمن يتفحص شيء يلمع في محاولة لسَبْرِ حقيقته و معرفة ما إذا كان زائفا أم ذا قيمة... بدأ الموجودون في القاعة ينتبهون إليه ويتتبعون حركاته... البعض متسائلين والآخرون مستهزئين، كيف لا وهم يؤمنون أنهم أُوتوا من الحكمة والفطنة وخفة الظل، ما لا يملكه هذا الكهل غريب الأطوار الذي من المفترض أن يوحي إليهم بشئٍ يجهلونه!!! خَفَتَت الأصوات تدريجياً حتى صمتت الغرفة، وسَكَنَ الجميع إلى مقاعدهم بتململ... استمرّ الكهل الذي يُفترض أنّه أُوتي الحكمة بتفحّص القلم... بعد ثوانٍ من الصمت الممتد، بدأ الحديث دون أن يُناظرنا أو يَحِيد عن تأمّله لقلم الرصاص... قال:
"ليس هنالك فرق كبير بينكم وبينه... نعم! فقط المحظوظون منّا يُدْرِكون أنّهم كقلمِ الرّصاص.... تخيّلوا لو أَنّه يَسْتَشْعر الألَم... كيف سيشعر في كلّ مرّة يُبرى لِيَعُود فَيَكْتب بعد انكسار... نحن دائماً نبحثُ عن مِبْراةٍ حادّة مشحوذة لضمان أنّ الفِعْلَ سيكون حاداً بما يكفي ليُعطي أفضل نتيجة... هذا القلم لا يأبه إن ارتكب خطأً، فممحاته تسمحُ لَه بإعادة الكتابة وتصحيح الخطأ... هو يترك علامةً حيث يَمُر.. إنْ مرّ فلابدّ من أثر يقول إنه كان هنا... مرّ من هنا... وقيمته لا تكمن بشكله الخارجي... عندما تذهبون لشراء قلم رصاص، قد يشدّ انتباهكم تلك التي لَوّنَ خارجَها جميل الألوان أو زيّنها زخارف... في حقيقة الأمر هو الداخل ما يهم وحسب.... تأكدوا أن تتفحصوا الدواخل قبل الانجذاب لباهي الألوان! تذكّروا ذلك... قد يفيدكم"
انتهى من الحديث فضحك الكثيرون ممن كانوا في القاعة... أطرق رأسه... أدارها ذات اليمين وذات الشمال وهو يتنفس بعمق... رفع رأسه ببطء ونظر إلينا، أكاد أجزم كل في عينيه... التَفَتَ للوراء واضعاً القلم في حقيبته بعناية... أغلقَ الحقيبة... حَمَلها وعاد لمواجهتنا... قال "ذات يوم ستعلمون" وغادر!
أذكر جيداً كمْ هَزّني حديثه... لم أملك من الشجاعة حينها أن أناظر الموجودين في القاعة وأصرخ بوجههم... هذا الكهل يحذّرنا... ما قاله مهم... لكني آثرتُ الصمت الأحمق... عدت للبيت مسرعة وكتبت كلماته بقلم رصاص في مخبئي السري!
حتى يومنا هذا، لا زلتُ أفتحُ ذاتَ الدفتر وأُعِيد قراءة كلماته... أُعَاوِدُ "التّعليم" فوق الكلمات بقلم رصاص كلما ذبُلَت... أعاود زيارة الصّفحة كلّما "برتنيّ الحياة بحاد واقعها... كلما حاولتُ مَحْوَ الأخطاء لأجد أنّها لا تُمحى أبدا دون أثرٍ لكن من الممكن أن تتعلم منها فلا تعيدها، وعلى الرغم من ذلك نُكَرّر بعضها مع سابق إصرار... أُعَاوِد قراءة ذابل الكلمات، كلّما مررت دروباً ومررتُ على بشرٍ كنت بينهم لكن لم أترك أثراً فاخْتَفَيْتُ مع أوّل الغياب... أقرؤها بألمٍ كلّما رأيتُ كم بات زمننا يقيّم الزائف مما يلمع غير آبه بجوهر...
وتبرينا الأيام فَنَكْبُر لنَصْغَر أكثر... ونحاول جاهدين محو الخطأ حتى تصدمنا حقيقة أن الممحاة في الحياة ما هي إلا الوقت اللازم لتصويب الخطأ والوقت كما الممحاة ينقص لا يزيد... تُرى لو كُنا ندرك كم نحن لا نعلم آنها، أكُنّا لنستمع أكثر للكهل الحكيم؟ أكُنا لنبتسم لألم فِعْل التّشكيل القاسي والحياة تنبري بكل أشكالها تبرينا لتشحذنا؟ أكُنّا لِنرتكب أخطاء أقل فنُطِيل عمر الممحاة؟ والأثر... ماذا كُنّا لنفعل حتى نتركه؟
لم يبق من قلم الرصاص الكثير، لكن فعل "البَرْي" لا يتوقف!
