Saba Almubaslat
"في يدينا بقية من بلاد فاستريحوا كي لا تضيع البقية!"
بين التملك والانتماء، فروقات بسيطة فالأول واقع يفرضه من يستطيع دفع ثمن الأشياء ليمتلكها والثاني خيال من هَام حبّاً لشيئ فدفع له العمر ثمنا! هكذا هو حال الإنسان، فهناك من امتلأت جيوبهم وكروشهم لدرجة ضَغَطَت بها على ضمائرهم فخنقتها وأصمتتها فتملّكوا الأرض والدار والهواء وما بينهما. وهناك من أحب بصدق فكرة الأرض ورآها عِرضا، والهواء فذاب فيه هوى، والدار استحالت له ذكريات طفولة وقصص غرام أفلاطونية في شبابه، تملّكه حب انتماء لها جميعا. المضحك المبكي في الموضوع أن المُتَمَلّكون يملكون صكوكا وأوراقا تُثبت ملكيتهم أما المُنتمون فلا يملكون إلا فكرا وحبا وقلبا وهذه الأشياء لا تثمن ولا تسعر في والستريت أو على مقياس دواجونز!
تعرفون ما يحدث للفريقين؟ الأول يشتري جذورا ويدّعي حقّه في المكان فيناديه الكل "سيدي"، أما الثاني فيلملم الحب والذكريات والهوى أسمالا بالية ويحزمها بما تبقى من إنساتيته ويرحل، لأن ليس في جعبته ما يثبت ملكيته للمكان!
هنيئا للأغنياء ما امتلكوا... أما الفقراء، فعوضكم على الله. فهذا الزمن ليس للفقراء... هو للقلة الفاسدة التي اختارت أن تملأ بطونها بمال سحت وتشرب الكرامة كؤؤسا من نبيذ في صحة وطن يتاجرون فيه كما يتاجر قرصانا بالأحرار فيحيلهم عبيداً.
فلتتقهقروا يا فقراء الأرض ولتعودوا لزنازن التاريخ... أَوثقوا السلاسل حول الأعناق والأرجل، فحبس في زنزانة لهو أشرف ألف مرة من مسير في موكب تُساقون فيه لسوق تُعرضون فيه بأبخس ثمن، وتُرهنون فيه بدل قرضٍ غير حسن ويُتبرع فيه بكرامتكم كعربون تقدير وإعلان غير مطلوب بالخضوع والإذعان للشيطان الأعظم- زيادة البيّاع!!
إن آثرتم الرحيل فلترحلوا... لا تحزموا من أمركم شيئا... فرّوا بأجسادكم فإن عبرتم حدود القهر دون أن تُصَادر جلودكم وتُحَاكم الأفكار الثورية في صدوركم فهنيئا لكم... هاقد كُتب لكم عمرا جديدا. يا أيها الفقراء، الوطنية زادكم وزوادكم... ارحلوا وما زال في جعبتكم منها القليل... ارحلوا قبل أن يصادروا قدرتكم على حب قرية أو تذكر رائحة خبز الطابون في صباحات تشرين... ارحلوا قبل أن يُغتال الدحنون وتُقتلع أشجار البلوط التي تأرجحتم عليها صغارا... فما عاد هذا المكان لكم وما عادت ملامحكم تشبهه... والوطن من هو إن لم يكن ملكا للجميع؟ إن صارت ملكيته ضيقة، أمسى عبدا للقلة التي يمتلكونه وصارت أنهاره مشارب لهم فقط وبحاره منتجعات لا يصل شطها إلا من أمكنه امتلاكها وكهوفه منازل يحتفلون بها بانتصاراتهم الهزيلة التي لا يترجمها إلا صرر من دراهم ذهبية.
يا فقراء الجيب أغنياء الكرامة، ارحلوا من سلطة المقهورين المذلولين الذين ينادون أنفسهم سادة، وسودوا الأرض فما لها من ناصر إلاّ أنتم.... قفوا درعا يحمي الأحرار والحرائر... كونوا رجما للشياطين من أشباه البشر... شدّوا الرحال لمكان هجره كل العالم إلا أهله... كونوا للأنذال صوتاً حقاً يرتجفون إن حتى ظنّوا أنه سيغادر الحناجر... أطرقوا الأبواب من الداخل وأنتم مُوقنون أنكم رغم الحصار تسجنون كل من في الخارج... كبّروا وهلّلوا على لحن أجراس الكنائس... واعلموا أنكم لن تهونوا فمثلكم لا يُكسر!
يا طوقان لو تعلم... هم لن يستريحوا حتى يبيعوا البقية... يا طوقان أنهك الوطنينون الفقر والقهر والتهميش واللهث وراء رغيف خبز صغر حجمه فصار أكثر رشاقة يركض دون توقف... يا طوقان القدس لم يعد قبلة إلا لأهله والبقية ممن لازال الشرف حزامهم يشدّون به أمعاءهم الخاوية ليقهروا المدافع والمطامع... يا طوقان هلاّ ناديت من القبر مجددا؟ هلاّ أمرت المترفين الفاسدين السادة العبيد مجددا؟ قل لهم كما قلت من قبل "في يدينا بقية من بلاد فاستريحوا كي لا تضيع البقية!"
