بعضٌ مِنِّي ونَيِّف، بَقِيَ هناك... حيث مَشَيْتُ آخرَ مرَّةٍ قبلَ الرَّحيل... حيثُ جَلَستُ تحتَ شجرةٍ شَهِدَتْ تَقَلُّبَ العمر ومرور البشر وميلادات الصَّبَاحات الكثيرة... بعضٌ مِنِّي دائماً لا يعودُ معي... يَسْتَودعَنِي ويبقَى هناك... في الأماكن حيث الدُّروب تَأْخُذ قَدَمَيْكَ وذكرياتكَ في رحلةٍ للأمامِ إلى ما كان أو كاد يكون مِنْ حياة... رحلةٌ قَصُرَتْ أَمْ طَالتْ، ضَحِكَتْ أَمْ بَكَتْ، جميلة! هي تلك الأماكن حيث النَّهار وضوئه يرفُضان الرَّحيل مُبَكِّراً... يضحكانِ في وجهِ القمرِ مُخَاِدعينَهُ، فَيَسْلِبَانَهُ بعض مساحات سمائه... هي تلك الأماكن حيثُ الزَّهر يَتفتَّح دُونَ عناء... سخاءُ بكاء السماءاتِ الفَرِحَةِ تَرْوِيها... لا تتكَبَّد عناءَ البحْثِ في جوْفِ الأمس عن ماءٍ يروي عطشَهَا... تلك الأماكن تُخْطئُ نَوَرِسهَا، مُعتقدةً أنَّ النَّهر مِن جَلَالِ سَخائِه بحْراً، فَتُحلِّق بتَرَاخٍ بين ضفَّتَيه معلنة بفرحِ الوَاصِلِين بعدَ طولِ تِيهٍ، أنَّها "هنا" عندما تَبْلغ أيٌّ منهما...
بعضٌ مِنِّي دائماً لا يعود معي...
انْتَزعْتُ البَاقيَ عُنوةً لِيُغادرَ معي... انْتَزَعتهُ رُغماً عنه، لِيُبْقيَ قليلاً مِنَ الرُّوح لِي ولِجسدِ الأيَّام القادمة... هَمَسْت لَهُ مُخادِعةً أَنِّي سأعود به إلى حيث يُريد، وإنْ كان بعد حينٍ أجهلُ قَدْرَه... وأنِّي سَأُطْلِقه، أو بعضاً منه، حُرَّاً لِيُنْبِتَ حياةً حيث يَشْتَهي... حتى وإن كان في ذلك تَسَاقُط الجسد وأسْمَالَ حَمَلَها مِن كثْرةِ التَّرحال وتَداخُل الدُّروب وتَراكُم الذِّكريات... فَمَنْ نحن إِنْ لَمْ نَكُنْ بقايا تغادر وأخرى نُلَمْلِمهَا مِن مساحاتٍ ضَاقَتْ بنا لكنَّها وَسِعَتْ آخرين، فاسْتَوْدَعُوهَا بعضاً منهم؟!
