top of page
Search
  • Writer's pictureSaba Almubaslat

الباحثون والتِّرحال

كثيرون يمرُّون بها وهي في قاعة الانتظار! لا تلمحَهم إلَّا عندما يصبحون في مرمى النَّظر. لا تحرِّك ساكناً... لا تبذل أيُّ جهدٍ في مراقبتهم، أو النَّظر حولها... كأنَّهم وكلُّ ما يحيطها لا يعنيها بشيء. أراها... جالسة... هي هنا، لكنها أبعد ما تكون. كأنَّ الملل قد أبطأ قدرتها على التَّواجد حيث الوجود.


وبينما تتغيَّر الوجوه، فيمرُّ من يمر، ويرحل من يرحل، أجدني أترك كلّ من حولي، وأثبِّت النظر إليها. شيء ما فيها يذكِّرني بما نسيت عنِّي ومنِّي، أو هكذا أردتُ أن أعتقد. تبدو هادئة، أو تتظاهر بذلك... لا يُشكِّكني بهذا الهدوء غير فكَّيْها. يبرزان عندما تعضُّ عليهما من وراء ما غطَّى الوجه من طول انتظار بين الحين والآخر. كلَّما فعلا، شكَكْت أنَّها تصطنع الهدوء، لكنَّ شيء ما في داخلها يعتمل وكأنَّما على وشك الانفجار.


تتَّكِئ بيديها على مقبض حقيبة سفر صغيرة، وتضع ذقنها فوق اليدين... تربِت بأصابعها على مقبض الحقيبة، بوتيرةٍ رتيبةٍ مكرَّرة. أشعر وكأنها تلعب لحناً في ذاكرتها رتيباً هادئاً كلاسيكياً، كما مظهرها. لا تغيّر الوتيرة، ولا المسافات، ولا الفواصل بين تلاحُق الأصابع على مقبض الحقيبة... علَّ الرَّتابة تساعدها على البقاء هادئةً وسط كلَّ هذا الصَّخب. تُرى من أين أَتَت؟ إلى أين هي ذاهبة؟ أعلم أنَّها مثلي بين مكانين... يفصلهما صمت الرِّحلة وضيق مقعد الطائرة.


تُغلق عينيها ببطء... وتبقيهما مغلقتين. أشعر بالإحباط... كنت أحاول أن أعبر منهما إليها. تُرى عمَّاذا تبحث؟ هل أضاعت أحداً هل فقَدَت العنوان؟ يغطِّي حقيبتها الكثير من قصاصات الورق الملصقة. هذا يقول أنَّها ارتحلت كثيراً، وأنَّ الحقيبة كانت رفيقتها. تُرى كم لحن عزفت أناملها فوق هذا المقبض؟ أم تُراه ذات الَّلحن تكرِّره مهما اختلفت قاعات الانتظار؟ كم مرَّة سَنَدَها وثِقل ما يجول في قلبها وعقلها وكلِّها، وهي تضع الذَّقن على اليدين، لتريح الجسد من عبء حمل الرَّأس قليلاً؟


قطع استغراقَها باللامبالاة صوتٌ ينادي بأنْ يتوجَّه المسافرون إلى البوَّابة. فتحت عينيها ببطء شديد... رفعت ذقنها عن اليدين، ورفعت يداً لتُبقي الأخرى ممسكة بمقبض الحقيبة... وقفت بهدوء من تمرَّس هذا الترتيب من ردِّ الفعل على النِّداء. أزاحت شعرها إلى الوراء، ورمت برأسها قليلاً للخلف. أخذت نفساً عميقاً. نظرت أمامها. بدأت بدفع الحقيبة إلى جانبها، لا أعلم من كانت تسند من، ومَضت!


مشيتُ خلفها، فقد كنّا على ذات الطائرة. بالرغم من تشابهنا أو اختلافنا، فالنِّداء كان لكلتينا! أدركت أنَّه بينما هي لم تنظر لأحد، إلَّا أنِّي لم أنظر لأحد غيرها. عندما اصطففنا في ذاك الممرِّ الضيِّق المؤدِّي لباب الطَّائرة، التفَتَتْ للخلف حيث كنت أنا... وكأنَّ طول نظري إليها جعلها تألفني... هل كانت تراني، من وراء جفونها الموصدة؟


سألتني بصوت تعب رقيق: سياحة أم عمل؟

قلت: عمل... وأنت؟

قالت: عمل أيضاً

أدارت رأسها للأمام... صمتنا لحظة أو أكثر... عادت فنظرت إلي.

قالت: هل زرتِ المكان من قبل؟

قلت: بضع مرَّات... وأنت؟

قالت: أوَّل مرَّة... هل وجدتهِ مختلفاً عن غيره من الأماكن؟

قلت: قد تختلف الأماكن، لكنَّا لا نلحظ ذلك... كله يتوقَّف على ما تبحثين عنه.

قالت: هل وجدتِ ما تبحثين عنه؟

أطرقتُ رأسي... ابتسمت بتعب... نظرت إليها...

قلت: المهم أن يجدك هو. لو وَجَدَني، لسكنتُ إليه.

قالت: ألا زلت تبحثين؟؟

قلت: نعم! بعد حينٍ، يصبح البحث هو ما نجد، ونقرِّر أنَّ الترحال هو الرِّحلة.

قالت: وماذا يحدث عندما نتعب؟

قلت: نتوقف... نهجر الجسد... نخلعه كما معطف قديم... وتمضي الروح تبحث وحْدَها... ثم تتعب هي الأخرى، فنغادر... لا نعود نكون.

ابتسمت لي.... كأنَّما كانت تريد أن تستكمل الحديث... لكنّها قرَّرت أن تتوقف.

قالت: ترحالاً سعيداً!

قلت: بحثاً موفَّقاً!


49 views0 comments

Recent Posts

See All
Post: Blog2_Post
bottom of page